Les Miserables


يحكى أن :
مفتش شرطة فرنسي بلغ من القسوة والإلتزام والتطرف في تنفيذ عمله إلى درجة أصبحت حياته متوقفة على عمله كمفتش للشرطة. وحتى الإله, لم يفكر به يوماً. كان له رئيس واحد فقط, وهو الأعلى منه رتبة. يقال بأنه ديكتاتوري ومتسلط , يصدر أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان, ومع ذلك - في نظري - فهو بأس وإنسان أجبر على الظلم. لماذا قلت أنه بأس رغم الصورة المطبوعة عنه في ذهن أغلب العارفين بهذه الشخصية بأنه مجرم!؟

هذا الرجل العنيد القاسي القلب ولد في سجن, وكانت أمه عرافه وأبيه من المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. حين ترعرع لاحظ أنه غارق خارج نطاق المجتمع. لقد لاحظ أن المجتمع يوصد أبوابه في وجهه مثلما أوصدت الأبواب في وجه عدوه الذي يطارده بعد خروجه من السجن لأكثر من عشرين سنة. هذا الرجل كان مزاجاً من عاطفتين هما في ذاتهما بسيطتان, ولكنه كاد يجعلهما شريرتين بتطرفه في تنفيذ المهام, احترام السلطة وكره التمرد. منذ أن بلغ منصبه كمفتش عام كان قد وقف حياته وأعماله وحتى دينه كله على الشرطة. كان له رئيس هو مسيو جيسيكيه, ولم يكن يعرف, أو بمعنى أصح نادراً ما يفكر بذلك الرئيس الآخر كما يصفه الذي رسم شخصيته بإقتدار, وهو الله.

بعد أن حرره عدوه من قبضة الثوار, تفجر بؤسه المكتوم منذ زمن طويل, ولم ينتهي كما في الزمن الروائي إلا بعد عشرين سنة من مطاردته لعدوه! كان يعتمل في أعماق وجوده شيء جديد, ثورة فيها ما يدعو إلى فحص الضمير والتفكير. هذا الرجل القاسي القلب وجد نفسه يلاقي آلاماً رهيبة, كان من أسباب ألمه النفسي أنه كان مكرهاً على التفكير, استشعر أن شيئاً رهيباُ كان ينفذ إلى روحه, الإعجاب بمحكوم عليه بالأشغال الشاقة. كان ألمه العظيم ناشئاً عن فقدانه اليقين, أن يجد نفسه فجأة بين جريمتين, جريمة إطلاق سراح رجل, وجريمة إلقاء القبض عليه. نشأ في نفسه نظام كامل مؤلف من حقائق غير معلومة, وعلم جديد بالكلية. لقد لمح في الظلام كما يقول المؤلف الإشراق الرهيب لشمس أخلاقية مجهولة. كان قد اضطر أمام محكمته الباطنية الخاصة بسمو هذا الرجل البائس. وكان هذا أكثر ما أبغضه وقاسى منه. شرير محسن محكوم عليه بالأشغال الشاقة يملأ قلبه بالحنان, يقابل الشر بالخير, ويرد على البغض بالعفو, هذا الرجل أجبر هذا المفتش المتطرف بتنفذ المهام أن يعترف أخيراً بوجود هذا الكائن الجبار. يقول المؤلف في وصف الحالة النفسية لهذا الرجل " إن ماكان يجري في ذاته كان تخلخل ضمير مستقيم, وإقصاء نفس عن طريقها, وسحق صلاح أُطلِق على نحو لا يقاوم في خط مستقيم وانكساره عند الله. الله, النفسي دائماً بالنسبة للإنسان, المستعصي, وهو الضمير الحق على الضمير الباطل, المحرم على الشرارة أن تنطفئ, الموصي النفس بأن تعترف بالمطلق الحقيقي حين تواجه المطلق الوهمي, الله هو الإنسانية خالدة, والقلب البشري باقياً, هذه الظاهرة هل فهمها هذا؟ هل نفذ إليها قلبه ؟هل كون فكرة عنها؟ لا من غير ريب. ولكن تحت ضغط هذا الممتنع استشعر أن جمجمته تكاد تنفجر! "

وسقط هذا الرجل في البحر, إنتحاراً.. كان قلقاً مرعوباً من هذه الأفكار التي بدأت تخطر في عقله. لم يكن يفكر في يوم من الأيام, كان يعمل ويعمل فقط. أمام هذا الضغط تفجر هذا البؤس وسقط بعزة نفس غارقاً في البحر, كما كتبها المؤلف العظيم فيكتور هيجو, ورسمها المخرج بل أوقست, ونفذها جيفري روي بكل جنون وعبقرية.



هذا المشهد القلق كان الأكثر تأثيراً عليّ لدى مشاهدتي لفيلم Les Misérables , ويجبرني على القول بأن بطل الرواية الخالدة " البؤساء " للعظيم فيكتور هيجو ليس جان فالجان وحده, بل المفتش جافير يقف معه في المنافسه, في البطولة والبؤس. وفي المصير المشترك الذي يتحكم به هيجو, الطريق إلى الكمال الأعظم : الموت.

البؤساء.. ملحمة فيكتور هيجو الخالدة والباقية أبد الدهر. الرواية كما هو معلوم متوفرة في المكتبات المحلية بعدة إصدارات, لكن الترجمة الشهيرة هي من إصدار المترجم منير البعلبكي, وعدد صفحات الكتاب 500 صفحة من القطع الصغير فقط. في معرض الكتاب الماضي تفاجئت بوجود ترجمة مختلفة للبؤساء, ترجمة لم أكن علم علم بها على الإطلاق. هذه الترجمة هي كذلك من ترجمة منير البعلبكي ولكن لم تكن مختصرة, بل كانت ترجمة كاملة لهذا العمل الأدبي الرائع. عدد صفحات الكتاب الكامل أكثر من 1600 صفحة في جزئين من إصدار دار العلم للملايين.

ليس من السهل تحويل رواية رفيعة المستوى إلي فيلم أو مسلسل تليفزيوني، ربما لاختلاف نوعية المتلقي في الحالتين، فالذي تعودت عيناه علي متابعة فيلم أو مسلسل تحكي له قصة لها بداية ونهايه لايستطيع قراءة عمل عميق. قد تكون الأسباب أن المشاهد لا يعرف مسبقاً ما سيعرض على الشاشه, عكس القارئ الذي يعرف أشياء كثيرة لا يشاهدها مجسدةً في الفيلم.

الرواية الماورائية, التي تحكي أحداث متتابعة من التاريخ الحالي, وفي نفس الوقت ترجع إلى زمن قديم ليس بالإمكان تجسيدها سينمائياً بأي حال. مثال ذلك رواية البؤساء. تقع أحداث الرواية كما هي في الترجمة الكاملة - 1600 صفحة -في أكثر من مكان، ولكن الأحداث تجري كلّها في فرنسا، بعد الثورة، ومن حيث التسلسل الزمني للأحداث، تجري الأحداث عام 1815، ففي هذا التاريخ يهرب البطل من السجن، ويعود فيكتور هيجو إلى الوراء، أيّ إلى عام 1796 وهو العام الذي زج به بجان فالجان بالسجن . من الصعب أن ترسم للمشاهد حكاية تجري في 1815م مثلاً, ثم تعود به إلى الوراء بكثير, إلى عام 1796م أو أكثر كذلك.

شاهدت الفيلم المقتبس من الرواية قبل أربعة أشهر أو أكثر لا أعلم بالضبط, ولكن الذي أذكره أني أعجبت بالفيلم كثيراً, ولازال مشهد انتحار المفتش جافير عالقاً بذاكرتي, وللأبد. أردت قبل أيام أن أشاهد الفيلم مرة أخرى بحكم قراءتي الجديدة لترجمة الرواية الكاملة. كنت أريد أن أشاهد جان فالجان من جديد والمفتش جافير, وكوزيت وفانتين, وماريوس. والسبب في ذلك التصوير الفني لشخصيات هذا العمل الخالد.

المخرج لم يستطع بالتأكيد تجسيد الرواية كاملة. واقعياً لا يمكن تجسيد تلك الأحداث والثورات في ظرف ساعتين فقط. ولكنه نجح نجاحاً باهراً في تجسيد الرؤية المختصرة للبؤساء, لحالة الهروب والمطادرة بين جان فالجان وجافير, وقصة ثورة ضاحية سان انطوان وقصة ماريوس وكوزيت.



البراعة في تنفيذ عمل سينمائي مقتبس من رواية مشهورة يعتمد فقط على الإثارة, وإظهار المشاعر والعواطف الإنسانية في شخصيات العمل لكي يستطيعوا الاقتراب من المشاهد أكثر, والأهم اقتباس أكثر المشاهد القابلة للتجسيد. ولا توجد في نظري أروع مشاهد من مطاردة استمرت لأكثر من عشرين سنة بين عملاق الرواية جان فالجان, وعدوه اللدود المفتش جافير, وإظهار آلام فانتين, والبؤس الطفولي في شخصية كوزيت. وعلاقة الحب التي ربطت بين ماريوس وكوزيت.

أحد مسببات نجاح الفيلم تطابق شخصيات الرواية صوتياً على الأقل وبنفس التحركات المذكورة في الرواية. فجان فالجان مثلاً, صوته في الفيلم يمثل الرجال القساة القلب, مائل إلى الخشونة والعنجهية, وهو على كل حال صوت جهوري مميز لهذه الشخصية التي تعذبت في السجن لأكثر من تسعة عشر سنة. شخصية جافير أظهرت الشخصية العملية المنغمسة في العمل, يمثل مفتش الشرطة القاسي القلب, ذو الأعصاب الباردة والميتة.


يبدأ الفيلم بخروج جان فالجان من السجن, والذي جسد شخصيته في الفيلم ويليام جون . وبعد أن أمضى يوماً متعباً في الطريق, توجه إلى المطرانية واستقبله المطران، ولكنه في الليل سرق صينية فضيّة من عند المطران وهرب. وقبض عليه رجال الشرطة وأعيد إلى المطران، الذي عفا عنه، وادعى أنّه نفسه أعطاه الصينية ولم يسرقها وأضاف أنّه أيضاً أعطاه شمعدانين من الفضة, وعندها أطلق المطران صرخته الشهيرة, والتي كانت كافية لقلب النظام الفكري لجان فالجان بقوله : " يا أخي ! أنت لم تعد ملكاً للشر, ولكن ملكاً للخير. وإني إنما أشتري نفسك, أنا أنتزعها من الأفكار السوداء, ومن روح الهلاك وأقدمها إلى الله "

بذلك ساعده لكي يعود إلى الأخلاق الرفيعة، ويبتعد عن السرقة، ليس عن طريق السجن، ولكن عن طريق المعاملة الحسنة، وبالفعل بدأ يهتم بحسن سلوكه، وأخذ يصلي، وعاد بمخيلته إلى تاريخ سجنه، إذ وقع في السجن منذ تسعة عشر عاماً، أي عام 1790، إذ سرق بضعة أرغفة من الخبز من أحد الحوانيت، وألقي القبض عليه، وهرب من السجن، وألقي القبض عليه ثانية، وسجن مدة تسعة عشر عاماً، وهرب من السجن، وكانت البداية سرقة بضعة أرغفة من الخبز من أجل إطعام أطفال أخته الجياع اليتامى السبعة.‏ذهب بعد ذلك إلى مدينة لا يعرف أحداً فيها ولا يعرفه أحد وهي مدينة مونتروي، وقد امتلأ قلبه بنور الدفاع عن الفقراء والبؤساء، وهو واحد منهم، ولاسيما بعد تعرفه على المطران.


وفي بلدة مونتروي كانت تعمل امرأة في ريعان شبابها اسمها فانتين، وهي بالأصل لقيطة، أغراها شاب غني وتركها، وأنجبت طفلة اسمها كوزيت، واضطرت لبيع جسدها، ولكنّها كانت تسعى للتخلص من هذه المهنة القذرة، وتركت فانتين ابنتها كوزيت عند أسرة تملك فندقاً صغيراً، واسم هذه الأسرة تيناردييه مقابل مبلغ من المال. وكانت أسرة تيناردييه تعامل كوزيت معاملة سيئة، وتبتز فانتين، عملت فانتين في معمل في بلدة مونتروي، كان يملكه الأب مادلين، الذي عرف بقوة جسدّية خارقة، واستغرب مفتش الشرطة جافير قوته، وذكرته قوة الأب مادلين بقوة شخص هرب من السجن وهو جان فالجان، أمّا فانتين فلقد طردت من المصنع بعد أن عرفت إدارة المصنع سر حياتها السابقة، أيّ أنّها كانت تبيع جسدها، وتم طردها دون علم الأب مادلين، وعندما التقى بها، وعد بتقديم المساعدة لها لكي تصبح امرأة فاضلة، وطلب إعادة كوزيت إليها، إلا أنّ أسرة تيناردييه، ماطلت في التخلي عن كوزيت، لأنها وجدت فيها مصدراً للرزق.‏



أرسل مفتش الشرطة جافير إلى قيادته يستفسر عن الأب مادلين، إذ كان يظن أنّه نفسه جان فالجان لوجود شبه بينهما، ولكن جافير علم أنّ جان فالجان وقع بيد العدالة، وهو من المحكوم عليهم بالأعمال الشاقة المؤبدة في سجن طولون. وبالتالي فإنّ الأب مادلين ليس جان فالجان. وأخبر مفتش الشرطة الأب مادلين بحقيقة ما حدث، الأمر الذي أربك الأب مادلين، لأنّ شخصاً آخر بريئاً حكم عليه بدلاً عنه، ولذلك قرر الذهاب إلى المحكمة، ليعترف بالحقيقة، وذهب واعترف وأعطى المحكمة عنوانه، وكان ينوي في اليوم ذاته تخليص كوزيت من براثن أسرة تيناردييه، وبذلك خلص رجلاً بريئاً شبيهاً به من ظلمات السجون، وقدّم الأب مادلين الدليل على أنّه جان فالجان، لأنّ المحكمة لم تصدّقه في البداية، وألقي القبض على الأب مادلين أو بمعنى أصح جان فالجان، الذي طلب من جافير أن يعطيه مهلة ثلاثة أيام ليأتي بكوزيت إلى أمها فانتين، إلا أنّ المفتش جافير رفض، وتوفيت فانتين وهرب جان فالجان من السجن، وترك مبلغاً من المال للكاهن لكي يقوم بمراسم دفن فانتين ويغطي نفقات محاكمته ويوزع الباقي على الفقراء وهرب من البلدة.‏
ومن هنا .. وهنا فقط, تبدأ الإثارة في الفيلم.
بواسطة يوسف، شبكة الاقلاع.


تورنت الفيلم مع الترجمة :
http://www.4shared.com/file/qDGEYnix/LesMiserables1998.html

16/9/2010

0 التعليقات:

إرسال تعليق